قصة قصيرة بقلم الدكتورة مها الدوري كتبتها عندما كانت طالبة في أعدادية الحريري للبنات
سنة ( 1990 ) :
عنوان القصة : بيروت
خرج من البيت راكضا لايلوي على شىء ، أنه لا يبغي الإ الأبتعاد عن البيت عن صراخ أطفاله الجياع الذين لم يأكلوا ولم يلمسوا ( الزاد ) منذ ثلاثة أيام أنه يذكر أنه قبل ثلاثة أيام وأربعة ليال قد تناول هو وأفراد أسرته فتات الخبز العفن والمتيبس الذي تمن عليهم به جمعيات الأنقاذ وهذا هو الحال في بيروت بعد أن أشتد القتال وأشتد قصف اليهود فلا ماء ولا زاد ولاوقود يحتضن الجسد بدفئه ولا أمان يلثم الروح بدفئه ، وسط القنابل ووابل الرصاص المتساقط على الأرض خرج وفي أذنيه طنين واصوات فزعة تختلط بين دوي الرصاص ورعد القنابل ونحيب أطفاله وولولة زوجته وقرقعة مصارينهم تتلوى من الجوع ، مشى ومشى ومشى وهاهو يقترب من البحر أنه يرى الآن أكمل تطبيق على مثل كل شىء من أجل البقاء فهاهم الصيادون يرمون شباكهم الى البحر الأزرق الباهت كفيروز غابت عنه الروح ، ويلتقطون الشباك وبدلا من الأسماك تلتقط الشباك جثث ... جثث ... جثث ... مقطعة الرؤوس والأطراف ، جثث أطفال ونساء ورجال تفوح منها رائحة التفسخ تزكم الأنوف ، شعر بالغثيان أنه يختنق أحس لأول مرة أن لا هواء في بيروت وأنه يستنشق رائحة البارود والموت ومرة أخرى بدأ يركض ويركض أحس أن أطرافه بدأت تفارقه فسقط من الاعياء عند أنقاض بيت وبعد أن ألتقط أنفاسه المتقطعة بدأ يستكشف ماحوله وتنادى الى سمعه صوت الريح تعبث بأطلال البيت كفحيح أفعى تترقب الفريسة فوقف وأخذ يتطلع الى ماحوله الى الدور والى الموت يخيم على المكان و.... وفجأة تسمرت عيناه وفخر فاه رعبا فهاهي عينا طفل قتيل تواجهه وتنظر إليه أنه يحس أن هاتين العينين اللتين غاب عنهما النظر تواجهه وتنظر إليه نظرة لايعرف معناها غير أن القشعريرة أخذت تسري في جسده البارد .
آلهي ماهذه النظرات أنها تطل عليه بحزن عميق ، لقد رأى الحزن في عيون كثيرة ولكن هاتين العينين يطل عليه بؤبؤهما الأسود العميق بحزن لم ير مثله من قبل كحزن نبي معذبِ وترتسم على وجهه ملامح سلام غامض سلام ماوراء الألم أن هذا السلام لا يحس به الإ الموتى أو المجانين ، ونظر الى يد الطفل بصورة لا أرادية ، ياالله ، أن في يد الطفل عشر ليرات وأخذ قبله يخفق بقوة أنه الأمل من جديد والتمسك بحبائل الحياة سوف يستطيع أن يشتري بهذه النقود طعاما لعائلته الجائعة ... نعم أنه الأمل وكأن الأمل لا يولد الإ من اليأس أو كأن الضوء لا يولد الإ من العتمة أو كأن الشمس لا تشرق الإ من بعد أن تمر بدهاليز الألم والعتمة .
بدأت أصوات الرصاص تعلو وتزأر في أذنيه وفجأة أحس بشىء يمر بسرعة هائلة من جانبه ونزلت قطرات من الدم من أذنيه ... أذن أنها رصاصة ولعلها ألآن أسفة على أنها لم تفجر هذا الرأس الذي ترتطم فيه الأفكار السوداوية بأفكار الحب والسلام وأكتفت الرصاصة فقط بأصابة أذنه ... نظر الى النقود في يده أنها ملوثة بدم الطفل ... أخذ الألم في اذنه يشتد ويشتد ولم يعد يحتمل أحس برغبة تدفعه الى أن ينظر في عيني الطفل ولكنه أحس بأرتعاده وخوفه من تلك العينين اللتين ترسلان شعورا غامضا بالألم والحزن والسلام معا ولم يعد يحتمل فأطلق لساقيه العنان ولا يعلم الى أين وأخذت الأفكار والصور تتلاطم كأمواج في راسه أحس قبل قليل بالأمل ولكن هذه النقود قد تكفي ليوم فماذا سيفعل بالأيام القادمة والتي بالطبع لن تكون أسعد حظا من الأيام التي سبقتها وفجأة ألتمعت في ذهنه فكرة أحس أنها الأمل الوحيد في أن يحتوي الأمان جسده ويلف السلام روحه .
دخل الى البيت بخطى متثاقلة كمن يمشي في جنازة أعز من يحب ، أنه مصر الآن على أكمال خطته الى النهاية لقد تعب من أداء دوره كأب لعائلة لايستطيع أعالتها ووصل الى عتبة الباب وتراقصت في مخيلته ذكريات جميلة ، أنه لأمر غريب أن ترتسم أمامك صور جميلة وسط دوي الرصاص ، حمل كيس الطعام الى صدره كمن يحمل بندقيته الى صدره ، ونظر الى الخبز الشهي في الكيس ودخل الى البيت وتراكض اطفاله نحوه وتلاطمت الأفكار في رأسه كان يحس أنه على مفترق طرق أحس أنه بدأ يتراجع عن تنفيذ فكرته ولكن جوع الأطفال ولهفتهم على مايحمل والدهم في يده سبقه فهاهم يختطفون الكيس من يده أحس بقلبه ينخلع من جسده وتثاقلت أنفاسه ودوار يلف روحه وبدأت قواه المتلاشيه تتخلى عنه أحس بصرخة أليمة تعتمل في صدره وأمتدت يده الى الخبز وأبتدأ يأكل وأنهمرت الدموع من عينيه فخرت أخاديد على وجهه المعفر بغبار الطريق ولهيب نار الحرب الذي يلف بيروت ، وهنا احس بحزن غريب أنه نفس الحزن الذي رآه في عيني الطفل القتيل أنه حزن مريح ومعذب أنه يشعر الآن بالسلام سلام بعد الألم ، مريبة بعد أن تغيب أمام ناظريه أرواح عائلة أحبها كحب بيروت للسلام ، وكحب بحر بيروت للونه الأزرق الفيروزي ، ولكنه ورغما عنه ومن أجل حبه سوف يطفأ شموعا كانت تضىء حياته لتنطفأ حياته معها وها هي حياته وحياة عائلته ترنو للمغيب بعد الآم مريبة لتنعم بالسلام ، سلام ماوراء الألم .
في اليوم التالي نشرت أحدى الصحف العربية خبرا حرره أحد الصحفيين وهو جالس وراء مكتبه أمام موقد غمر الغرفة بدفئه وهو يتناول فطوره الدسم بيد وبيده الأخرى قلم كتب به الخبر التالي . في بيروت عثر على عائلة مكونة من أب وأم وستة أطفال وقد فارقوا الحياة وكان السبب في مصرعهم تسمم شديد وقد أتضح من المعاينة أن السم قد وضع في الخبز الذي تناولته العائلة وقد عثر الذين أكتشفوا الجثث ورقة في جيب الأب يقول فيها " أنا رب هذه العائلة ولكي أحميها من صرخات الجوع والألم والرعب أخترت لها أن تصرخ صرخة ألم واحدة لتنعم بعدها بالسلام ولتحيا حياة لا مكان فيها للألم "
وقد تم العثور على الجثث بعد اسبوعين من مصرعها وقد كانت متفسخة لدرجة بشعة .
الى هنا أنتهى الخبر يحمل تحته أسم الصحفي الذي حرره وقد تلقته العقول العربية بالأسى وومصمصة الشفاه وقولهم الذين لا يفقهون له معنى " أنا لله وأنا إليه راجعون " وعاد الجميع الى أعمالهم يقظون وضمائرهم غادرت الحياة . |